الكتاب الأكثر مبيعًا ... ميريت VS الشروق



كل عمل ينُشر هو مجازفة من الناشر، ولكن المجازفة تقل عندما يعتمد الناشر على بعض الكتب الأكثر مبيعا، فالربح فيها مضمون، إذ يتوافر للكتاب الأكثر مبيعا مميزات داخل سوق النشر لا تتوافر للباقي، حديث متنامى شفاهى في الأوساط الأدبية، تقارير وحوارات وعروض في الصفحات الثقافية، تحويل العمل إلى وسيط آخر في الميديا، لقاءات تلفزيونية، شهرة الكاتب اعتمادا على أعماله السابقة ... إلخ. والملاحظ أنه ليس من بينها جودة الكتب الأدبية أو أنها في الأغلب في نهاية قائمة المميزات في مهنة النشر.  والأهم صنع نجومية للكاتب!
شئنا أم أبينا يساهم الناشر في صنع الكتاب الأكثر مبيعا بشكل كبير، فهو يعرفه منذ جاء إليه مخطوطا، ويضع رهاناته عليه وهو بالإضافة لمجازفته بالنشر لمؤلف ما بناء على رؤية محددة وواضحة لسوق النشر الذي يستهدفه- يمتلك حس وتوازن ما بين القيمة التجارية والمتمثلة في المبيعات والتوزيع وبين القيمة الإبداعية للمنتَج الثقافي وهو الكتاب.
ورغم ذلك تظهر كتب مثل "نسيان دوت كوم" للجزائرية أحلام مستغامي و "لا تحزن" لعائض القرني  تعمل على دغدغة مشاعر بعينها لدى القراء في مجتمع مقموع سياسيا وفكريا ومجتمعيا، هو في احتياج شديد لهذه الوصفات المريحة التي تفيده أكثر من رواية تحلق به في أجواء مختلفة نفسيا وفكريا، ولم يجد العاملون في مجال النشر تفسيرا لهذه الظاهرة سوى "احتياجات السوق" وهو ما يجيد بعض الناشرين اللعب به وتطويعه إذا لزم الأمر.
د. شرين أبو النجا ترصد مقارنة بين رأس المال الرمزي لدار ميريت ورأس المال الاقتصادي لدار الشروق في كتابها البديع "المثقف الانتقالي" وهذه المقارنة تنبهنا إلى كيفية صنع الكتاب الأكثر مبيعا في كلا الدارين.

 
ليس سرا طموح إبراهيم المعلم لرئاسة النادي الأهلي (فهو عضو مجلس إدارة النادي منذ سنوات ودخل انتخابات النادي 2014)، لست رياضيا ولكن معروفا أيضا دأب النادي على شراء اللاعبين من أندية أخرى ليضمهم لفريقه، وهي السياسة التي ينتهجها المعلم في الشروق؛ تعتمد دار النشر على كُتاب حققوا قدرا من النجاح خارج مؤسسته، وتتوافر فيهم قائمة من المميزات تجعلهم استثمارا جيدا، مؤسسة الشروق تمتلك مكتبات بفروع منتشرة ومصنعا للورق ومطبعة، بمعنى أنها تمتلك أطراف مهنة النشر بالإضافة إلى شركة لتكنولوجيا المعلومات وأخرى للإنتاج السينمائي وهو ما يجعلها أكثر قوه لبناء تكتل ثقافي مبني على أسس ليس لها علاقة بالكاتب أو موهبته، أسس لها علاقة بمنظمة التجارة العالمية، تمكِّنها ليس فقط من الانتشار في السوق والسيطرة عليه بل أيضا الترويج لسلعة (عمل فني ) ورفض أخرى وتقديمها بوصفها الخيار الأوحد... فلم يعد المحرر هو الذي يقرر بمفرده اختيارات النشر .. فالمؤسسة تحتم وجود لجنة تضم المحرر وخبير التسويق والممثل المالي .. تراقب وترسم المكسب الاقتصادي فى عملية أشبه بدراسة الجدوى.
على الجانب الآخر؛ عمل "محمد هاشم" كمسئول تسويق في دار نشر «المحروسة»قبل أن يؤسس دار نشر ميريت يسانده الناقد الفذ "إبراهيم منصور" وعدد كبير من المثقفين المستقلين، والأن أتمت ميريت 16 عاما من الكتب ومازالت لا تملك مطبعة أو مصنعا للورق ومقرها الوحيد  ب6 شارع قصر النيل مهدد الآن،ويضاف لرأس مالها الرمزي أنه تأسست فيها عام 2005 جماعة «أدباء وفنانون من أجل التغيير».
 يجازف "هاشم" بأسماء شبابية جديدة كل يوم ويكسب رهاناته بكمية الجوائز التي يحصدها كتاب الدار.
 ميريت لظروف خاصة محرومة من أسس مؤسسية تجارية لدى الشروق ولكن يعوضها  جماعة أدباء وفنانون ومثقفون يملئون الدار، فيما يشبه مدرسة، وفعل ثوري يناسب تمرد شباب الأدباء الذي يحتويهم المكان، وهو ما يصنع ويراكم رأسمالها الرمزي.
نستطيع بكل أريحية تأليف كتاب في ما بين دار الشروق ودار ميريت، ولكن هذا ليس همنا الآن، معلوم أن الطبعات الأولى لـ"علاء الأسواني" و"أحمد مراد" ومعظم كتاب البست سيلر وكتبهم الأولى كانت فى ميريت، ولكن يجب أن ننتبه إلى رحيلهم – طواعية أو تحت إغراءات- إلى المؤسسة الأكثر قوة.
 ما رصدناه من عوامل في الفقرة الأولى أكثر فائدة للناشر، ولكن ماذا عن الكاتب نفسه؟ إلمَ يطمح؟ هل يكفيه أو ترضيه الهوجة الموصوفة أعلاه؟ يقول "إمبرتو إكو" إن أصغر شاعر وكاتب لا يحلم أن يتبوأ عرش "هوميروس" فى الشعر و"شكسبير" فى الكتابة لا يستحق أن يكون كاتبا! وتفيض "مارجريت أتودد" فى كتابها "مفاوضات مع الموتى" عن طموح الكاتب للمجد والشهرة.
 ببساطة أكثر، الكاتب يريد قراء، وأرقام المبيعات تترجم هذا الطلب بغض النظر عن الوسائل الاحتكارية والتجارية التي تمارسها المؤسسة الثقافية!
تقول د. شرين في كتابها "المثقف الانتقالي"  ما نصه: "يقدم النموذجان – الشروق وميريت- أشكال التفاعل مع السوق ومع الحقل الثقافي والأدبي، وبما أن الرمزي لا يمكنه الاستمرار بدون الأقتصادي، في حين يمكن للاقتصادي الاستمرار بدون الرمزي، فإن التفاعل مع السوق يبدو من الأمور الرئيسية في المجال الثقافي وهو الأمر الذي يشكل جدلا و جدالا لم ينته حتى الآن " صـ148، و تقول أيضا: "لم يعد امتلاك المال الرمزي موجودا أو معترفا به، فكل من يصر على إعطاء الرمزي أولوية على الاقتصادي في هذه اللحظة المابعد حداثية هو مهمش أو مجهول أو غير ملتفت له .." صـ137.
من الغبن حرمان ميريت من حصولها على رأس مال اقتصادي وفي وقت ناضلت فيه لصنع ليس فقط ريادة في مجال النشر المستقل بل الأهم {وفي ظروف صعبة}، الكعب البنفسجي المميز لكتب الدار كان وما يزال دليل القراء في المكتبات عند الشراء. والدليل ليس فقط في حضورها جنبا إلى جنب مع الشروق في المعارض والمهرجانات الدولية ولكن أيضا في تقدير المجتمع الدولي لدور ميريت في كمية الجوائز التي تتلقاها الدار بصفتها، فالبعض يحسب المعادلة- وله الحق في وجهة نظره – أن مع تراكم رأس المال الرمزي وقوته يتحول إلى رأس مال اقتصادي. الشيء الوحيد الذي تفقده ميريت في صنع الكتاب الأكثر مبيعا في مواجهة الشروق هو البناء المؤسسي الصامد.
هنا نقطة جوهرية جدا في الجدل: هل المؤسسة هي ما صنعت شراسة واحتكارية دار الشروق؟! ولأننا لا نريد أن نبتعد عن موضوعنا حول الكتب الأكثر مبيعا، سنسأل سؤال آخر ذو صله : هل نجومية الكاتب التي يصنعها عملية الكتاب الأكثر مبيعا تؤثر في الحقل الأدبي والثقافي المصري؟ في فترة سابقة لم تؤثر نجومية وشهرة "خليل حنا تادرس" على الحقل الأدبي والثقافي واستطاع "نجيب محفوظ" أن يفرض سطوته على أجيال ويؤثر بشكل فعال في المشهد الأدبي المصري. أما اليوم فظاهرة الكُّتاب النجوم الجدد تحولت إلى معول هدم لمعظم المعايير الفنية، فالكاتب النجم يضفي شرعية على أي شكل أو تقنية لمجرد وجود اسمه على العمل، يستطيع أن يقتبس ويسرق وينتحل بدون محاسبة وبالعكس هو ضامن أن له ظهر من المعجبين والمعجبات بالإضافة طبعا للمؤسسة الراعية تسنده في وجه أي هجوم.
النجومية تفترض بداهة وجود شخص لامع واحد على القمة وقوائم الكتب الأكثر مبيعا تنتهي عند رقم عشرة، رغم أننا في مصر تحديدا نعيش حالة أشبه بورشة كتابة كبيرة لها إنتاج لا نهائي متنوع، النجومية أو الكتب الأكثر مبيعا أداة إخفاء غير مباشرة لكافة الأصوات الجديدة التي تحاول الالتحاق بالمجال، ناهيك طبعا عن تسيده كنموذج لشباب الكتاب.
النجومية والشهرة من ضمن الخطايا السبع ولكن الكتب الأكثر مبيعا ليست كذلك، في الغرب حيث ولد مفهوم ومعيار الكتب الأكثر مبيعا اتخذوا ضمانات لكسر سُمية اللعنة، فتتعدد الجهات التي تعلن هذه القوائم وتفرد قسما للآداب وقسما للكتب الأخرى ومؤخرا أفردت قائمة جريدة  "نيويورك تايم" قائمة لكتب الأطفال، كما تعد قائمة موقع "الأمازون" الإلكتروني من أشهر القوائم التي يتم تحديثها على مدار الساعة وبعضهم يفرض رقابة صارمة فلا يتم الكشف عن الوسيلة المتبعة في تحقيق قائمة "نيويورك تايم" والبعض الآخر يعتمد على مصادر آلية تماما.
يبدو طبيعيا استسلام قطاعات من القراء والكتاب والناشرين إلى فساد معايير ومفاهيم الكتب الأكثر مبيعا لأغراض في نفسهم ولكن في النهاية هذا يضر بالقراءة والإبداع وسوق النشر.

هناك تعليقان (2):