القارئ المصرى .. يعانى من مراهقة ثقافية


فى سنه 1994 فاز المخرج  كوانتين ترانتينو بجائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي عن فيلمه Pulp Fiction. أقرب ترجمة لعنوان الفيلم هى "سرد رخيص" وهو مصطلح يطلق على نوعية من الروايات الرائجة فى الغرب بها خلطة من المغامرات والأثارة وحكايات الأبطال العاديين فى أمريكا ومنتشرة جدا على رفوف المكتبات. فـ"Pulp" هو نوع من الورق المصنوع من لب خامة الورق ويمتاز برخص الثمن وتوافره فى المطابع ويستخدم فى طباعة هذا النوع من الروايات ومجلات الأثارة. الفيلم عبارة عن حكايات عدد من الأشخاص المختلفين تتقاطع مصائرهم بشكل ما، كل شخصية هى بطل قصتها لهذه النوعية من الروايات، جمع ترانتينو تلك الحكايات فى الفيلم وحكاهم بطريقة جديدة أظهرت أنهم ليسوا سطحيين كما كنا نظن
كوانتين ترانتينو حول بكل بساطة  السرد الرخيص الى ما نطلق عليه أدب رفيع بمجرد حكى مختلف وجديد. ليس الفارق - الذى يوضع فى الاعتبار- للرواج هو تلك الخلطة التى تشد القراء لروايات الـ Pulp Fiction فقط، بل الى الحكاية نفسها وكيفية حكيها. الفيلم أكتسب شعبية كبيرة، على المستوى الجماهيرى والنقدى حتى الأن، صحيح أن روعة الفيلم لا تكمن فى هذا فقط، ولكن سنكتفى به حتى ندخل فى موضوعنا عن السمات الأسلوبية لروايات الـ Best Seller. نحن عندما نتكلم عن الروايات الأكثر مبيعا فى مصر لن نستطيع تحديد وصف خلطه أو أسلوب يدخل به الكاتب مطبخه ليقدم لنا عمل أدبى طازج يتخاطفه القراء كالفطائر المحلاة، بغض النظر أن هذا غير منطقى أصلا، فنحن لن نرصد بأى حال من الأحوال فى مصر سرد فى حجم أجاثا كرستى ، ستفين كينج، بابلو كويلهو، أو دان براون للامساك بملامح خاصة.
فلو تكلمت عن الجنس كأحد مكونات تلك الخلطة، فمئات الروايات لا تحظى بالرواج والانتشار لهذا السبب. التلسين والفضائح السياسية والكباريه السياسى لن تكفى للاعتماد عليها فى ظل الدوشة السياسية التى نعيشها. التنقيب فى الدين أو الألحاد ليس خيار جيد للكاتب ليجذب به القراء فى ظل مجتمع محافظ أو يتظاهر بالمحافظة ومحاكم التفتيش التى تلاحق الكتاب. هل هى خلطه متوازنة بين التابوهات الثلاثة مع قليل من الأثارة والبوليسية ؟ أظن أن كاتب لو نجح فى هذه الخلطة يستحق قراء من نوعيه أفضل، ويصل الى مستويات من الوعى بالكتابة والكتاب تضع العمل فى مصاف الأدب الرفيع.
لن أبدأ فى الاستشهاد بروايات خليل حنا تاضرس فى مقابل بروايات نجيب محفوظ، فهى مقارنة، حتى من ناحية رواج الكتب، غير صحيحة، فخليل اعتمد على الجنس تقريبا فى كل أعماله وشكل وخط واحد، بالإضافة أنها لم تكن معظمها تأليف بل مجرد ترجمة وتمصير.

 
عدم وجود سمات خاصة لروايات البست سيلر لا يعنى عدم وجودها، بل هى تحتاج لتفسير أخر لوجودها. فالروايات الأكثر مبيعا فى الغرب والذى تأسست عليها جائزة البوكر البريطانية مختلفة تماما عن ما يجرى فى مصر.. فهى مبنية على إحصائيات وهيئات تمتهن النشر بشكل احترافي، أرقام وبيانات نفتقدها تماما فى مصر،، ما يجرى فى مصر معظمة أقرب الى ظاهرة دعائية وما يترتب عليها من آثار مبالع فيها.
لا التوزيع ولا المبيعات للكتب فى مصر نستطيع أن نؤسس عليهم رأى ما فى رواج أو أنتشار الكتاب، ناهيك طبعا عن تصور ما لمستويات القراءة إذا كانت إحجام أو إقبال على القراءة، لا ينبغي التعميم في هذه المسألة. لكن في مصر حيث نسبة الأمية تخطت الخمسين بالمئة (من عدد السكان)، ومبيعات الكتب التراثية والدينية تخطت تلك النسبة أيضا، فعن أية مقروئية وأية مبيعات نتحدث، ظاهرة البست سيلر ظاهرة ليست محددة الشكل أو الموضوع حتى ندفعها للدرس أو الفحص، كل ما نملكه هو مظاهر طرئت دفعت بعض الكتاب والكتب للصدارة فى سوق الكتب. يحلل ريتشار حاكمون، المستعرب الفرنسى، النجاح الجماهيري الذي حققته رواية علاء الأسواني "عمارة يعقوبيان"- مثلا- :"على الرغم من أنه خلق كتابة متقنة وبأسلوب احترافي لكنه لم يأت بجديد على المستوى الجمالي وإنما خلق "توليفة ذكية "{ توليفة مخصصة لقارئ معين} للنجاح تتجاوب مع توقعات القراء العاديين وتكمل ظواهر أخرى موجودة في السرد التلفزيوني بحيث رأى هؤلاء القراء في أعماله "وسيلة مريحة" لأبداء حقهم في النقد الاجتماعي والسياسي وبطريقة لم تتوافر في أعمال أخرى"، وأشار جاكمون الى خطورة هذه النماذج، لأنها " تشوه المعايير الأدبية الفنية بحيث ينظر دائما الى درجة المقروئية كمعيار وحيد للقيمة وهذا ليس صحيحا دائما وطوال الوقت علينا ألا نخضع لهذا الربط بين النجاح التجاري والقيمة الأدبية"، خاصة في ظل غياب المتابعات النقدية الأكاديمية والأدبية لهذه الأعمال.
نحن هنا أمام عوامل أخرى غير الكتاب والمؤلف ساهمت فى ظاهرة البست سيلر. فكتاب "عايزه أتجوز" لغاده عبد العال والذى حقق عدد طبعات أكثر من كتاب "عماره يعقوبيان"، استثمرت دار النشر النجاح الذى حققته مدونتها على الأنترنت. وأذكر كيف حكت لى غادة، قبل تعاقد الشروق معها، كيف وهى من سكان المحلة كانت تحج (استخدمت هذا التعبير) الى معرض القاهرة الكتاب السنوى لتشتري كتب تكفيها لطول السنه. فالحال الواقعى لسوق الكتاب فى مصر سيء ولا يتيح لنا أى حديث عن رواج للكتب.  
 ورغم ذلك نرى بعض المظاهر الجيدة مثل ما أخبرتني كاتبة شابة كيف أنها اندهشت من وجود رواية "كافكا على الشاطئ" لهاروكى موراكامى نسخة مقلدة على أرصفة الشوارع، فقلت لها ببساطة هذه من الأثار الجانبية لظهور روايات البست سلر فى مصر. فالكتب المقلدة منتشرة بين فرشات الكتب على أرصفة وسط البلد. فرشات الكتب هى المكان الوحيد تقريبا الذى نستطيع أن نرى علاقة ما بين الكتاب والقارئ. أظن أن ما يصنع كتاب بـ Best Seller فى مصر ليس تلك الخلطة، بل القراء أنفسهم. الدخول للمكتبة وفهرسة الكتب على الأرفف مختلف عن التوقف عند فرشة الكتب والتطلع بشكل عشوائى للكتب فى الشارع. الحالة التى يكونها القارئ، أى علاقته بالكتاب، مختلفة. لن أستطيع التخلى عن فكرة أن معظم القراء يختارون الكتاب ليس لمضمونة، بل لأسباب، قد تبدو تافهة لدى البعض، مثل شكل الكتاب والغلاف وجملة ظهر الغلاف، بل أن بعضهم يشترونه كهدايا أو كإهداءات.
يجب عند رصد وتحليل ظاهرة البست سيلر فى مصر أن ننظر باهتمام الى الطرف الأخر وهو القارئ، ليس فقط لأنه بالطبع المسؤول الأول (القوة الشرائية) عن المبيعات ورواج الكتب، ولكن لأن هذا يضمن سلامه العلاقات الثقافية عند الحديث عن الكتابة والكتب. يقول الأسواني في حوار بأخبار الأدب: "لا يمكن لمصر أن تنجب أدباء كباراً بدون أن يكون فيها قرّاء كبار" وهى من المرات النادرة التى يحق فيها بغض النظر عن أكليشية السخيف  عن الديموقراطية هى الحل.
أجيال بدأت أول قراءاتها بروايات مصرية للجيب، ملف المستقبل ورجل مستحيل... ألخ، وانتقلت الى الكتب التى قدمتها لها مكتبة الأسرة وبعدها اتسعت المجالات لمطالعة كتب الشباب التى تقدمها ميريت والأدب المعاصر التى تقدمها شرقيات. لكن القارئ الحالى الذى يبدأ قراءاته بالكتب الساخرة لعمر طاهر وغيره، يظل فى نفس الدائرة لا يخرج منها، ويتعاطى بداية من علاء الأسوانى الى أحمد مراد، أو ما نطلق عيله روايات البست سلر.. لماذا؟
أحد تلك العوامل تراجع ريادة مؤسسات ثقافية عن القيام بدورها فى تقديم الجديد، ثانيا طبيعة العصر وتوغل وسائل الاتصال الحديثة فى حياه القارئ التى تحدد بشكل عنيف خياراته وتفضيلاته، ثالثا التعامل الخاطئ مع أدب محدود القيمة على أنه أدب عالمى (لا يخفى عليكم الإشاعة بترشيح الأسوانى لجائزة نوبل ووصول رواية لأحمد مراد للقائمة القصيرة للبوكر)، رابعا الكتاب الشباب أنفسهم أصبحوا أسرى البريق لكتاب البست سلر ومحاولاتهم المستميتة للتقليد والإمساك بخطوط واهية للخلطة السحرية الوهمية، هناك خامسا وسادسا وسابعا...
لكن هذا لا يعفى القارئ الشاب المصرى من وقوعه فى مراهقة ثقافية.  والمراهقة نفسها مرحلة من مراحل العمر، لها أهميتها ودورها، ولكنها تظل مرحلة تنتهى بالنضوج وزيادة الوعى والخبرة. فهذا القارئ لم يعرف عن روايات بحجم مائة عام من العزلة والحب فى زمن الكوليرا إلا من خلال الأفلام التى تناولتها بشكل ساخر، ولم يعثر عليها من خلال التنقيب فى المكتبات وبين الكتب، أى أنه مازال مراهق لم ينضج بعد، ينتظر أحدا ما يفرض عليه خيارات وتفضيلات الكتب ويتطلع الى رف البست سلر عند دخوله الكتبة، ينتظر من الأعلام أن يرشح له كتابا، تحت دعوى انه لن يضيع وقته فى كتاب ضعيف، فى حين أن قوائم البست سلر والصفحات الثقافية لا تمانع فى تقديم كتب ضعيفة الى جمهورها بدعوى أن هذه خيارات الجمهور.
هل ننتظر من هذا القارئ المراهق ان يقرأ المخزنجى وبهاء طاهر والبساطى - ليس مجرد ككتاب عابر بالصدفة- ويهتم بهم ويقدرهم كما يهتم بيوسف زيدان واحمد مراد والاسوانى؟ ممكن.. تعتمد الإجابة على عوامل كثيرة أهمها القارئ نفسه.  علينا كمثقفين مهتمين بعمليات القراءة والكتابة أن نساعد على فك الشرنقة التى تحيط بالقارئ وتمنعه من النضج ونساهم فى صنع قراء كبار ليكون عندنا كتاب كبار.

استفدت من بعض المصادر التى أوردتهم الكاتبة منى برنس فى مقال لها فى أخبار الأدب عن علاء الأسوانى

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق